"كتارا" .. كل هذه الفضاءات

ذاع اسم "كتارا" عربياً، بعض الشيء، وفي الصحافة والميديا في خارج دولة قطر، مع شهرة جائزة كتارا للرواية العربية منذ خمس سنوات. وفي أوساط أخرى، عُرف الاسم كثيراً مع الذيوع الكبير، إلى حد ما، لجائزة كتارا لشاعر الرسول. لكن المسمّى نفسه، كتارا، لم يُعرف جيداً، لأسبابٍ وفيرة، منها قصور الأداء الإعلامي في تسويق فكرته، وتعميمها، وإشاعة تعريفٍ طيّب بها. أما نحن، سكان قطر، مواطنين ومقيمين، فـ"كتارا" بالنسبة إلينا فضاءٌ خاص، وليس مجرد مكان، أو حيّا في الدوحة لا يقطن فيه الناس، بل حي للتنزّه والتجوّل والتسرية عن النفس، وأيضاً لمتابعة أنشطةٍ فنيةٍ وثقافيةٍ وترفيهيةٍ لا تتوقف طوال العام، لكل الأجيال، لكل الأذواق والأمزجة، لكل الألسن واللغات. وهو بتعريفه الذي يسمّي نفسَه به، في موقعه الإلكتروني مثلاً، هو "الحي الثقافي". وهو مؤسّسة رسمية تنفق عليها الدولة، ومن أكبر المشاريع الناهضة وأهمّها في الدوحة. وليس كلاماً دعائياً مسترسلاً أو مديحاً مجّانياً أن مؤسسة الحي الثقافي (كتارا) فضاء استثنائي في وظيفته، وفي الذي يؤدّيه في غير شأن ومسألة، وإنْ ظلّ إطاره العام ثقافياً، بكل ما يحمله مفهوم الثقافة من تنوع مجالاته ومستوياته وأصعدته. 
وللحق، يُعجب المتابع في الدوحة لأنشطة "كتارا"، إن استطاع أن يتابعها من كثرتها، بالتفات أهل الخبرة والإدارة والإشراف والتخطيط والتنفيذ في هذه المؤسّسة الحيوية إلى فكرة التنوع الإنساني، والتعدّد الثقافي، عندما تتوالى كل هذه الأنشطة، في الموسيقى والتشكيل والغناء والمسرح والرواية والحكي والسينما والفلكلور وفنون التراث، وكثير غزيرٍ غير هذا كله، في قاعات "كتارا" ورواقاتها وساحاتها ومدرّجاتها وصالاتها ومسارحها وأرصفتها وطرقاتها، ومختلف فضاءات المكان المعفّر بالعتاقة، والذي يحقق معادلة الجدّة والقَدامة باحترافيةٍ عالية. والمهم أن المساهمين في أوراش المكان وفعالياته، مستضافين أو مقيمين، ينتسبون إلى كل العالم، إلى كل ثقافاته وأمصاره وقارّاته. وليس من المجاملة في شيءٍ أن ينكتب هنا إن "كتارا"، في سَمْتها هذا، في الإبداع الأنيق الذي يستحقّ أن تراه العيون، وتختبرُه الأخيلة، ولا يُكتفى بالقراءة عنه، يحقّق معايشة المحلي والعربي والإقليمي والعالمي، في أفقٍ إنسانيٍّ يقف على المشترك بين الثقافات والفنون واللغات، وفي مقدّماته الجمال والوداعة والحب والاحتفال بالحياة.
أما إذا سأل من أراد أن يسأل عن مناسبة هذه الانتباهة هنا إلى "كتارا"، الحي الثقافي الذي يقترب من عامه العاشر، فإنها مهرجانٌ غير مسبوقٍ في المنطقة، انتظم أخيرا أربعة أيام، على ربوة حي كتارا في الدوحة، سمّوه مهرجان حدائق الوسمي، واشتمل على حدائق صغرى كثيرة تحاكي حدائق من بريطانيا وفرنسا واليابان والهند وقطر، مع فعالياتٍ ترفيهيةٍ وفنية، ومسابقات وورش، وعروض مسرحية (أجنبية للأطفال في غالبيتها)، وذلك كله في هواءٍ طلق، وأجواء طبيعةٍ جذّابة رائعة. ومع احتشاد الزوار بأعداد غفيرة إلى المكان الرائق، حيث الزهور والورود والمشاتل، بألوانٍ وتصميماتٍ بلا عدد، سيما في مساءات الأيام الأربعة، تشعر بأنك  في واحدةٍ من مدن أوروبا الوديعة، المشغولة بالأناقة فقط، وبإشاعة الدّعة وهناءة البال. ثمة متعةٌ وفيرةٌ تُحرزها هنا، فتهنئ إدارة "كتارا" على تنفيذ هذه الفكرة البديعة، لأول مرة، في تجربةٍ جاء نجاحها مؤكداً، ويؤمل تكرارها دورياً، ودلّت على روحيةٍ ابتكاريةٍ، وقدرةٍ إداريةٍ عالية الكفاءة.
جاء هذا النشاط أياماً بعد معرض كتارا الدولي للحمام الزاجل الذي شاركت فيه 3350 حمامة من 17 دولة، جعلك تسأل عمّا إذا كان هناك من لا يزالون يستخدمون هذا الحمام، وفي وُسعك أن تطيّر أرطالاً من الرسائل في ثوانٍ إلى كل الكون. إنما هي هوايةٌ يستأنس أهلوها سباق هذا الحمام، ونيْل الفائز منه جوائز وتكريماً. وفي ظن صاحب هذه الأسطر، أن العالم، في كل ما فيه، مما نعلم ولا نعلم، أكبرُ مما في مخيلتي أو مخيلتك، فالذين يستمتعون في مدينةٍ في أميركا اللاتينية بالسباحة في رب البندورة، مثلا، لهم أن يبتدعوا البهجة في أمرهم هذا... وفي "كتارا"، ثمّة مصادر ليس ميسوراً عدّها لإدراك البهجة، في أوراش الزخارف والتلوين والتعليم والتطريز والتثقيف والقص والصيد والتمثيل واللعب والرياضة والفُرجة والإطلالات على التراث البحري.. وغير ذلك كثير كثير مما نحظى، هنا في الدوحة، بالانتقاء منه، لمؤانسة النفس وإمتاع الروح، فمواطن للجمال والإبداع غزيرةٌ هنا... في حي كتارا.


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/2/27/كتارا-كل-هذه-الفضاءات-1
via IFTTT

تعليقات