العالم في انتظار "اليوم التالي"

العالم في هوس غير مسبوق. يكتنفه ذعر مما هو ماثل أمامه، وخوفٌ من ألا يصل إلى ما يريده بسرعة، والكل في انتظار نهاية "الرواية" وترقبها. والخشية من أن تمتد فصولاً، والسؤال المرتسم على الشفاه: ماذا سيحدث في "اليوم التالي"؟ والسؤال الأكثر إلحاحا: متى يبدأ "اليوم التالي"؟ وقريباً من السؤالين، ما تنفكّ أسئلة أخرى تتراكم في الرؤوس، عن احتمالات التغيير في العالم، بعد انكشاف ضعفه وهشاشته، وعجز النظام الدولي الماثل عن إدارة أزماته، وفقدانه قيادة ديناميكية تستقرئ ما يدور من حولها، بحيث انعكس ذلك حتى على المستوى الفردي، ولم يعد أمام الإنسان الذي يوشك أن يهزمه كائنٌ غير منظور سوى طلب الأمان والبحث عن السلامة الشخصية، وقد فقد ثقته بدولته، وما أفرزته من مؤسسات واستراتيجيات وصيغ.
ووسط الأزمة الممتدة أمام عيوننا، انكب بعض من حكماء العالم ومفكّريه على استشراف ما يمكن أن تفرزه الحال الماثلة، سعياً وراء إعطاء أجوبة تظل غير نهائية، على ما هو مطروح من تساؤلات. وإذا ما رصدنا ما سجلته مراكز بحث ودوريات متخصصة، نجد حالة من التلاقي والتشابك في رؤية هؤلاء المفكرين لما يمكن أن يكون عليه العالم. وقد نحتاج إلى وقت أطول، لنحصل على تقييماتٍ تملك دقتها ووضوحها. ولكن في معظم التحليلات المتوفرة، ثمّة اتفاق على أن العالم سيشهد تغييراتٍ عاصفةً، تطاول دولاً وأنظمة ومؤسسات، بعضها لن يظل صامداً أمام هول ما قد يحدث وقوته.
بين هذا الرصد، نلمح اكتشاف الباحث والفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، هشاشة "العولمة" وفشلها في إيجاد تضامن حقيقي بين الأمم، وتوقعه ظهور أشكال جديدة من التضامن الدولي العفوي، بعد انزياح الأزمة عبر تحقيق اكتفاء ذاتي في الحاجات الغذائية والصحية على المستوى الوطني، وتعاضد منفتح على مصيرٍ مشترك لكل الناس الذين يعيشون فوق هذه الأرض. في إشارة لافتة، يظهر موران فضيلة "الحجر الاجتماعي" الذي فرضته الدول على مواطنيها في "العودة إلى ذواتنا، واكتشاف أطفالنا، والتعرّف إلى جيراننا"، بمعنى استعادة وحدة "الأسرة" ودورها في إيجاد تضامن اجتماعي راسخ.
من ناحية أخرى، يتوقّع ستيفن والت من جامعة هارفرد تقوية مركزية الدولة الوطنية، وتصاعد  المشاعر القومية، من جديد، وانتقال مركز القوة إلى الدول التي سجلت نجاحاتٍ في مواجهة كورونا، مثل الصين وكوريا الجنوبية. يؤيده ريتشارد هاس (دبلوماسي أميركي مخضرم) الذي يستشرف "انكفاء معظم الدول على الداخل والبحث عن الاكتفاء الذاتي". فيما يعتبر خبير الأمن القومي في الهند، شيفاشانكار، ذلك "تصاعداً للتوجهات الشعبوية والنزعة المحلية التي تمثل عالماً أكثر فقراً وأنانية، وإذا ما حفزتنا كورونا على التعاون فسيكون ذلك أمراً إيجابياً"، يوافقه جون أكنبيري من جامعة برنستون الذي يتحدّث عن انهيارات اجتماعية واقتصادية، ربما تدفع إلى البحث عن نماذج أكثر أماناً للتعاون المشترك.
يقف في معارضة وجهة النظر هذه جوزيف ناي من هارفارد، الذي يركّز على أهمية "الاتجاه الكوني" الذي سيتعزّز في مرحلة ما بعد كورونا "لأن الأوبئة والأزمات الاقتصادية القادمة لن تعرف حدوداً، ولا يمكن حلها بدون تعاون دولي". قريباً من هذه الملاحظة، يتفاءل الأكاديمي والدبلوماسي الأميركي، نيكولاس بيرنز، في قدرة أجيال المستقبل على صون الكوكب الذي نحيا عليه، وتجاوز الأزمات التي قد تواجهها. وهناك أيضاً رؤية جون ألين من معهد بروكنغز في "إعادة تشكيل هيكل القوة العالمي وزيادة التوتر بين الدول، ومواجهة الدول النامية خطر العزلة"، ورؤية الأكاديمي والوزير السنغافوري السابق، كيشو محبوباتي، المتشائمة، إذ يصف عالم الغد بأنه سيكون "أقل انفتاحاً، أقل حرية، وأكثر فقراً"! وفي مقاربة مختلفة، يرى العالم اللغوي والمفكر، نعوم تشومسكي، إمكانية ظهور نظام عالمي تتسيد فيه أميركا من جديد بعد نجاحها في حربها البكتريولوجية، ونشرها فيروس كورونا، بغرض إيقاف تقدم الصين وإضعاف دورها في العالم.
يبقى عالمنا العربي الذي يعيش اليوم أزمات متداخلة، أزمة كورونا واحدة منها. وقراءتنا لواقع حاله تعرّفنا أنه سوف يكون أكثر ضعفاً وتردّياً وانكشافاً، وقد تتوالى الانهيارات فيه إلى درجة فقدانه كل العناصر التي كان يمكن أن تشكل قوته، وتضمن فاعليته في عالم متغير، لو كان حكامه قد رسموا له طريقاً آمناً، وعملوا على إدارته بحكمة ومسؤولية واقتدار، لكن (لو) لن تنفع بعد أن بلغ السيل الزبى.


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/3/31/العالم-في-انتظار-اليوم-التالي-1
via IFTTT

تعليقات