من ذاكرة إبراهيم شاهزاده

مرّ الاثنين الماضي عيد التلفزيون الأردني، فيكون مناسبةَ التفاتة هذه السطور إلى الإعلامي إبراهيم شاهزاده (83 عاما). ليس فقط لأنه أول من قرأ نشرة أخبار على شاشة هذا التلفزيون مساء يوم 28 إبريل/ نيسان 1968، وإنما أيضا لأنه، متّعه الله بالصحة، وحدَه (فيما أظن) من إعلاميي جيله الرائد، في الإذاعة والتلفزيون الأردنيين، لا يزال حاضرا، بخبرته وذكرياته وتجربته، يطرح آراءه، في ما يُشاهِد على الشاشات، وفي شؤون الإعلام والصحافة الراهنة، بلغةٍ رفيعة التهذيب، إنْ انتقادا أو امتداحا، على صفحته في "فيسبوك". ولا أقرأ له تدوينةً (لم أحظ بالتعرّف إليه ولم ألتق به أبدا) إلا وتأخذني إلى قعداتي قدّام التلفزيون الذي كان قد دخل إلى منزلنا شهورا قبل حرب 1973، ولم أكن قد بلغت العاشرة، فأرى في نشرة الثامنة، بالأبيض والأسود طبعا، طائرة الملك حسين تهبط في موسكو أو طوكيو أو هلسنكي، وهذه مفرداتٌ ذاتُ وقعٍ عجيبٍ على أسماع الولد الذي كنتُه، ثم يطلّ إبراهيم شاهزاده بالبالطو الطويل، ويحمل أحيانا مظلّة، وثلجٌ خفيف في المشهد، ويُخبرني (وغيري من النّظارة) بما صنع الملك، ومن التقى، وماذا قال في حفل العشاء. ومن بين باقين في الذاكرة، كانوا يقرأون الأخبار، نبيل المشيني، رحمه الله، وحيدر محمود وغالب الحديدي وسوسن تفاحة، أطال الله في أعمارهم، مثلا. ومن بين كثيرين كانوا يقدّمون برامج في غير شأن، ومنهم مازن القبّج وإبراهيم السمان، رحمهما الله، كان إبراهيم شاهزاده موضوع حسدٍ كثير فيّ، من فرط أسفاره، وركوبه الطائرات، .. مع الملك.
المرجّح أنه ليس حنينا من النوع التقليدي إياه ذلك الذي فينا، نحن الأردنيين، إلى الشاشة التي كان عليها التلفزيون الأردني في تلك السنين، ليس الحنين الذي يرى الجميلَ في كل ماضٍ انقضى، ولا يرى إلا ركاكةً في كل راهن. ليس الأمر هكذا، وإنْ بعضٌ من هذا الكلام جائز، إنما هو المستوى الثقيل الذي كان عليه التلفزيون الأردني، بقناتيْه، وهذا حقيقي. وبداهةً، من دون إغفال طوفان الفضائيات الحادث حاليا، وتنوّع خيارات المشاهدة إلى حد فادح. ومع التسليم، طبعا، بأن لخبرات الطفولة مواطن خاصة في وجدان الفرد (وحشاياه؟)، فبهجةٌ غزيرةٌ كانت تشيعها فينا سهراتُنا أمام مسلسلٍ من بطولة محمود أبو غريب أو دريد لحام أو عمر قفّاف أو خيرية أحمد أو محمود سعيد أو عبد المجيد مجذوب أو صلاح منصور، بعد نشرة الأخبار التي كان غير معهودٍ في اليافعين أن يجلسوا أمام التلفزيون لمشاهدتها. ولكني كنتُ أفعل، ربما لألحظ، مثلا، نظّارتي كيسنجر وقامة ديستان وحاجبي بريجينيف وأناقة سليمان فرنجية، وأرى إبراهيم شاهزاده، في تقرير محلي أو في سفرٍ إلى مسقط أو أدنبرة.
صنع طيّبا أستاذنا شاهزاده (من أب من أصل بنجابي وأمّ من الناصرة) أنه دوّن مقاطع من سيرته في كتابه "من دفتر الذاكرة" (جبل عمّان ناشرون، 2014). سيعرف قرّاؤه أن التلفزيون الأردني الوحيد في المنطقة الذي بث على الهواء مباشرةً نزول أول إنسان على سطح القمر عام 1969، وأن إداراته حرصت دائما على توفير الشروط التقنية والتي تستجد أولا بأول. وفي الكتاب ما يبعث على الإعجاب، في تيسير التغطيات التلفزيونية الحيّة، والحصول على مواد فيلمية من مصادرها، في حرب 1973 مثلا. ويقدّم شاهزاده سردا لوقائع من تغطياته المشاركةَ الأردنية على الجبهة السورية في تلك الحرب. ووقائع صدامات مسلحة مع الفدائيين الفلسطينيين في 1970، عدا عن مباحثاتٍ للملك حسين مع القذافي وعبد الناصر وغورباتشوف، وأسفار له إلى لبنان والولايات المتحدة وباكستان وإيران والبحرين. وليست القراءة عن هذا كله (وكثير مثله) للوقوع على مفارقاتٍ وحواديت، وإنما هي للإفادة من تجربة إعلاميٍّ عتيد اختبر أولى الإمكانات المحدودة للبث من بعيد وإرسال المادة التلفزيونية، وتعامل مع التطورات الحديثة. تقاعد بعد أن شغل منصب المدير العام لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وكان قد بدأ عمله الإعلامي مذيعا في الإذاعة الأردنية، عند تأسيسها في 1958، قبل أن يشتغل في الإذاعة الإيرانية في الأحواز، لمّا أسّس القسم العربي فيها، ثم ينتقل إلى لندن في هيئة الإذاعة البريطانية.. جاء كتابه على كثير شائق في هذه المحطات، وفي الزرقاء التي ولد فيها، والناصرة التي كان يزروها عند أخواله، وعن منطقة جبل عمّان، وعن دنيا شاسعة طاف فيها إبراهيم شاهزاده، الباقي في مدارك صاحب هذه الكلمات بالبالطو الطويل يحتمي بمظلةٍ من ثلج خفيف في مطار في البلطيق .. قبل خمسة وأربعين عاما.


from صحيفة العربي الجديد – صحيفة الزمن العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/4/30/من-ذاكرة-إبراهيم-شاهزاده-1
via IFTTT

تعليقات