الأخلاق والسلطة



مما يطربني في تراث علمائنا الأقدمين -رضوان الله عليهم- هذه الحاسة الأخلاقية التي تشملهم وتوجِّه أنظارهم.. ولأننا في زمان علماني مادي فإن هذه الحاسة الأخلاقية تبدو في ذروة تألقها ولمعانها.. وهي مما نستدل به على أن ديننا هو إنقاذ للإنسانية!

وقد وصلت حاستهم هذه إلى حدّ عجيب، فمن ذلك أن الإمام ابن حزم، تكلم عما ينبغي أن يتعلمه الصبي، فذكر من ذلك أن يتعلم الخط والكتابة، وبينما تسير معه تتفاجأ بهذه المفاجأة: ابن حزم يرى الاكتفاء بأن يتعلم الصبي الخط لكي يكتب كلاما مقروءا.. ويحذر من التزيد في حسن الخط.. لماذا يا إمام؟

لأن حسن الخط هذا قد يؤدي بصاحبه إلى الوظائف السلطانية، فيقضي عمره في كتابة القرارات والأوامر والرسائل الظالمة والكاذبة، وبذلك "يضيع زمانه باطلا، ويخسر صفقته، ويندم حيث لا ينفعه الندم".. وشبهه بأنه كالذي كان لديه مسكٌ كثير، فلم يُطيّب به نفسه، بل طيَّب به البهائم، وسكبه في الطريق!

هذا مع أن ابن حزم، كان ابن الوزير الكبير أحمد بن حزم، وهو وزير المنصور بن أبي عامر، أعظم رجال الأندلس، ومن يُضرب به المثل في العدل.. إلا أن ابن حزم امتد عمره حتى ذهبت الدولة العامرية، وأدرك عصر ملوك الطوائف، ورأى ما يقترفه فيها أهل القصور من المظالم.

المعنى المقصود هنا، هو هذه الوقفة الأخلاقية التي تبدو غريبة جدا في عصرنا هذا.. فإن الالتحاق بالوظائف الرئاسية والملكية والسياسية هي غاية ما يسعى إليه المتعلمون، بل كل ذي موهبة يرجو أن يصل بها إلى ملك أو رئيس.. يستوي في ذلك القانوني والاقتصادي والإداري مع الراقصة والطبال والزمّار!

بل إن من يطالع قصة الحداثة والاستعمار في بلادنا يعرف أن الغرض الأصلي من نشأة المدارس والجامعات هي تكوين طبقة الموظفين والإداريين لجهاز الدولة المتضخم، فالعلوم في سياق الدولة الحديثة ليست مقصودة لذاتها أو لما فيها من النفع، بل لكونها أدوات سيطرة وتحكم وهيمنة.

إن النزعة الأخلاقية الدينية هي التهديد الأكبر والمباشر للنزعة المادية العلمانية.. وهذا هو المعنى العميق المستبطن للحرب على الدين! فالأخلاق هي من يجعل الإنسان حرا في موقفه أمينا على علمه عصيا على الاستعمال.

فإذا ذهبت الأخلاق وذهب الدين فالإنسان عندها مجرد أداة في جهاز المظالم الكبير، كفاءته هي نفسها قدرته على تنفيذ الأوامر -مهما كانت لا أخلاقية- بأفضل أداء ممكن!!

محمد إلهامي

moha.elhamy@gmail.com


تعليقات