قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كان ملك([1]) فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي
غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب([2])، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه،
فإذا أتى الساحر ضربه فشكى ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي،
وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم
آلساحر أفضل أم الراهب أفضل. فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من
أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى
الراهب فأخبره فقال له الراهب: أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما
أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء([3])، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع
إن أنت شفيتني. فقال: إني لا أشفي أحدا، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت
الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له
الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله.
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي
بني، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحدا،
إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له:
ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمئشار فوضع المئشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه،
ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المئشار في مفرق رأسه، فشقه
به حتى وقع شقاه.
ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال:
اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه
وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بم شئت. فرجف بهم
الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم
الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، فتوسطوا به
البحر فإن رجع عن دينه، وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بم شئت.
فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟
قال: كفانيهم الله.
فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: وما هو؟ قال: تجمع
الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد
القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع
الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد
القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في
صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب
الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن
الناس. فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت، وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن
دينه فأحموه فيها، أو قيل له اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست
أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه، اصبري فإنك على الحق»([4]).
([1]) ملك من ملوك حمير يقال
له: ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل وكان يهوديًا، وكان قبل مولد النبي
- صلى الله عليه وسلم - بسبعين سنة (الكامل في التاريخ 1/
391).
([2]) كان رجل من بقايا أهل
دين عيسى بن مريم عليه السلام، يقال له فيميون، وكان رجلًا صالحًا مجتهدًا زاهدًا
في الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحًا في القرى، لا يعرف بقرية إلا مضى عنها، وكان
بناء يعمل الطين (تفسير القرطبي 19/ 291).
([3]) لما أسلم
الغلام ووحد ربه، جعل يسأل الراهب عن اسم الله الأعظم، وكان الراهب يعلمه، فكتمه
إياه وقال: يا ابن أخي، إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه. فلما رأى عبد الله أن الراهب
قد بخل عليه بتعليم اسم الله الأعظم، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله تعالى
اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا، ثم جعل
يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى
خرج منها لم يضره شي، فأخذه ثم قام إلى صاحبه، فأخبره أنه قد علم اسم الله الأعظم
الذي كتمه إياه، فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. فجعل
عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله، أتوحد
الله وتدخل في ديني، فأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم،
فيوحد الله ويسلم، فيدعوا الله له فيشفى، حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه
فاتبعه على دينه ودعا له فعوفي (تفسير القرطبي 19/ 291، 292).
تعليقات
إرسال تعليق